النقد الإعلامي- مفتاحك لفهم العالم وبناء مستقبل أمتك.

المؤلف: د. سليمان صالح08.16.2025
النقد الإعلامي- مفتاحك لفهم العالم وبناء مستقبل أمتك.

خلال العامين الدراسيين 2007 و 2009، تشرفت بتكليفي من قبل جامعة الشارقة بتدريس مقرر النقد الإعلامي، وكانت هذه التجربة فريدة ومفعمة بالحيوية، حيث أظهر الطلاب تفاعلاً ملحوظًا وإبداعًا جميلاً في تقديم أوراق بحثية قيمة، تناولت مختلف الوسائل الإعلامية وكيفية تغطيتها للأحداث الجارية.

وبعد عودتي إلى القاهرة، راودتني فكرة تأليف كتاب شامل عن النقد الإعلامي، ولكن انشغالي بالعديد من الأحداث والمستجدات حال دون تحقيق هذا المسعى في حينه. ومع مرور الوقت، أدركت أن حاجة كل فرد في المجتمع لتنمية مهاراته في النقد الإعلامي تفوق بكثير حاجة طلاب الإعلام المتخصصين؛ فكل شخص اليوم يواجه تحديًا حقيقيًا، وعليه أن يختار بحكمة بين أن ينجرف في بحر الترفيه والمعلومات المتدفقة، مما قد يؤدي إلى ضياع وقته وجهده وفقدان مكانته في المجتمع، أو أن يسخر وسائل الإعلام للحصول على المعرفة الضرورية التي تمكنه من أن يصبح قائدًا ومفكرًا مؤثرًا وفاعلاً في بناء مستقبل أمته.

من هذا المنطلق، شعرت بأن الأمر أسمى وأجل من مجرد تقديم كتاب قد لا يقرأه سوى بضع مئات من المتخصصين، وتمنيت أن أجد وسيلة إعلامية تمنحني الفرصة لتطوير قدرات الناس على تحليل وتقييم وسائل الإعلام، والمحتوى الذي تقدمه للجمهور.

إذ أن هدفي الأسمى يكمن في تعزيز القوة الاتصالية والإعلامية للأمة الإسلامية، واستثمار الطاقات البشرية الهائلة في إنتاج الأفكار الخلاقة وبناء مجتمع المعرفة المتطور؛ لطالما تطلعت إلى تطوير الثقافة الإعلامية لتهيئتهم لمرحلة جديدة ومهمة من التاريخ، يستطيعون فيها أن يسهموا بفعالية في تعزيز قوة أمتهم، وذلك عندما يمتلكون الوعي الكامل بحريتهم في اختيار الوسيلة الإعلامية المناسبة، ويتمكنون من تقييم المحتوى المقدم لهم بموضوعية وشفافية، ويقومون بدورهم الحيوي كقادة رأي مؤثرين ينقلون المعرفة للآخرين، ويشكلون الرأي العام المستنير، ويشاركون بفاعلية في مناقشة حرة ومفتوحة لقضايا العالم ومشكلات المجتمع المختلفة.

في هذا العصر، بات كل فرد منا في أمس الحاجة إلى الوعي بالبيئة الاتصالية والإعلامية المحيطة به، لكي يتمكن من مواكبة التطورات المتسارعة، والحصول على الفرص المتاحة التي يمكن أن توفرها له وتجعله يتمتع بحقه الكامل في الحصول على المعلومات والمعرفة، الذي هو أساس جوهري لجميع حقوقه الإنسانية الأخرى، وعندما يتمتع بهذا الحق الأساسي، يصبح قادرًا على فرض إرادته، والمشاركة الفعالة في تقدم مجتمعه وازدهاره.

إن المعرفة كنز ثمين لا يقدر بثمن، ولكي تتمكن من الحصول عليها، يجب أن تتعلم كيف تستخدم وسائل الإعلام بحكمة وفاعلية، وتحدد أهدافك بوضوح من التعرض لأي وسيلة إعلامية، والتأكد من أن هذه الوسيلة تقدم لك الحقائق والمعلومات الصحيحة والموثوقة، وتعمل على تطوير قدراتك في تحليل وتقييم الرسائل الإعلامية المختلفة، وفهم دلالاتها العميقة.

النقد الإعلامي ومعركة المستقبل الحاسمة

لأول مرة في تاريخ البشرية، يتمتع الإنسان بحرية غير مسبوقة في الوصول إلى عدد كبير من وسائل الإعلام التقليدية والحديثة، وحرية اختيار الوسيلة التي تلبي احتياجاته المتنوعة من المحتوى الإعلامي. هذه حقًا مرحلة فارقة في تاريخ البشرية جمعاء، تتزامن مع تغييرات جذرية يشهدها العالم بأسره؛ فالصراعات محتدمة، والأحداث معقدة ومتشابكة، ولكنها تشير بوضوح إلى أن العديد من الأنظمة المهيمنة في طريقها إلى التراجع والانحسار، وأن المجال مفتوح على مصراعيه أمام دول وحضارات أخرى لتصعد وتتبوأ مكانة مرموقة وتبني نهضة جديدة شاملة.

فمن لا يفهم دلالات الأحداث المتسارعة، أو لا يحصل على المعلومات في الوقت المناسب ومن مصادرها الموثوقة والدقيقة، قد يفقد الكثير من الفرص القيمة في ذلك المجال العام الافتراضي الذي أتاحته ثورة الاتصالات الحديثة.

لكي تبني مستقبلك الزاهر، يجب أن تفكر مليًا في نوعية المعرفة التي تحصل عليها من وسائل الإعلام وجودتها، وفي مدى صحة المعلومات ودقتها. فمعلومة واحدة صحيحة وموثوقة تحصل عليها في الوقت المناسب يمكن أن تفتح أمامك آفاقًا واسعة لتحقيق النجاح والتميز، ومعلومة واحدة زائفة أو مضللة يمكن أن تدفعك إلى اتخاذ قرار خاطئ تندم عليه طوال حياتك.

العالم اليوم يغرق في طوفان هائل من المعلومات المتضاربة، وعليك أن تتقن فن نقد تغطية وسائل الإعلام المختلفة للأحداث، لتكتشف المخاطر والتحديات التي تواجه العالم، وتواجهها بحلول مبتكرة تحول الأزمة إلى فرصة سانحة.

لقد أدركت بعد فترة من تدريس مقرر "النقد الإعلامي" لطلاب كلية الإعلام أن حاجة كل فرد في المجتمع لتطوير قدراته في هذا المجال الحيوي تتجاوز بكثير حاجة هؤلاء الطلاب المتخصصين

القيادة الحكيمة والنقد الإعلامي البناء

من هذا المنطلق، فإن النقد الإعلامي ضرورة حتمية لكل قائد رأي يسعى إلى إحداث تغيير إيجابي في المجتمع؛ فالقيادة الرشيدة القائمة على المعرفة الصحيحة هي التي تعمل على نشر المعلومات الموثوقة، مما يزيد من ثقة الجماهير بها، وكل كلمة تنطق بها تستخدمها الناس في الحكم على مصداقيتك ونزاهتك، وفي هذا العصر الرقمي، يمكن أن يظل كل ما تقوله مسجلاً ومحفوظًا عبر الإنترنت إلى الأبد، ولا يوجد أي مبرر لك في ترويج معلومات زائفة أو مضللة تحصل عليها من وسائل الإعلام أو الإنترنت.

فالناس سيحاسبونك أنت شخصيًا على نقل المعلومات الزائفة، وستفقد الثقة فيك، وهذه الثقة هي أحد أهم الأسس التي يبني عليها القائد قوته ومكانته المرموقة بين جمهوره؛ لذلك، أصبح تطوير القدرات النقدية من أهم المؤهلات التي يجب أن يتمتع بها القائد، حيث تزيد هذه القدرات من إمكاناتك في صياغة رسائلك بوضوح وفاعلية، وتحديد المعلومات التي يمكن أن تتضمنها بدقة وموضوعية.

النقد الإعلامي وسط طوفان الترفيه والتسلية

النقد الإعلامي لا يقتصر فقط على تمييز الصحيح من الكاذب، بل يمتد ليشمل تمييز المفيد من الضار، والموجه من العفوي. وقبل أن توجه الآخرين، عليك أن تتعلم كيف تستفيد من مخرجات هذا النقد البناء لتحمي نفسك من الانجراف مع طوفان المحتوى الترفيهي ومخاطبة الغرائز الذي يغرق العالم عبر وسائل الإعلام المختلفة.

إن الغرق وسط هذا الطوفان الهائل هو أحد أبرز المخاطر الإعلامية المعاصرة. فبعيدًا عن أخطار الكذب أو الدعاية المضللة والتحديات الأخلاقية والقيمية، يمكن للإنسان أن يغرق إلى ما لا نهاية في محتوى لن يعود عليه بأي فائدة حقيقية؛ مما يضيع عليه فرصه الثمينة في التعرض لما يفيده وينمي قدراته. ولا يزال سيل هذا النوع من المحتوى يتدفق بغزارة، والخوارزميات تزيد من زخمه وانتشاره، والوسيلة الوحيدة لمقاومته هي نقد هذا المضمون وتقييمه بموضوعية، وتشجيع الآخرين على فعل الشيء نفسه.

هذا لا يعني بأي حال من الأحوال التقليل من أهمية الدراما والترفيه الهادف، فهناك الكثير من الأعمال الدرامية والترفيهية الراقية التي يمكن أن تعرض تجارب مهمة تزيد من قدرتك على تحقيق أهداف عظيمة، كما أن القليل من الترويح عن النفس يفيد ولا يضر، ولكن الإفراط فيه قد يخدر العقل ويزيف الوعي.

الحلول السلبية لا تجدي نفعًا

هناك من يقدم حلاً سهلاً وبسيطًا وهو مقاطعة وسائل الإعلام بشكل كامل، ولكنه حل لم يعد ممكنًا في هذا العصر الرقمي، وهو يفقدك القدرة على التواصل الفعال مع العالم، وبناء مكانتك الاجتماعية المرموقة، فاحذر هذا الحل السلبي، واعمل جاهدًا لتصبح مستخدمًا إيجابيًا لوسائل الإعلام؛ تنقد مضمونها، وتطور قدراتك على تقييمه بموضوعية، وتصدر أحكامًا صحيحة على مدى صلاحيته، قبل أن تنقل منه ما يهم جمهورك ومحيطك، فتشارك بفاعلية في تبادل المعلومات والمعرفة، وتصبح قائدًا للرأي المستنير.

ومع الأهمية القصوى للتعليم الذاتي في بناء القدرات النقدية، يجب على الدول أن تخطط بعناية لتعليم أبنائها ملكات النقد الإعلامي في الجامعات والمدارس، لتمكينهم من الحياة بنجاح في عصر ثورة الاتصالات والمعلومات؛ فالقوة الإعلامية للدول تقاس في هذا الزمان بمقدار ما يمتلكه مواطنوها من وعي وقدرة على النقد البناء.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة